فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} أي: لوقت جزائه. واللام تعليلية. فإن ما وعده لأجل طاعتهم وأعمالهم الصالحة، وهي تظهر بالحساب وتقع بعده. فجعل كأنه علة لتوقف إنجاز الوعد عليه، فالنسبة لليوم والحساب مجازية. ولو جعلت اللام بمعنى بعد كما في: كتب لخمس، سلم مما ذكر. أفاده الشهاب.
{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} أي: انقطاع.
{هَذَا} أي: باب في وصف الجنة وأهلها، فهو مبتدأ خبر مقدر، أو الأمر هذا، فهو خبر لمحذوف، أو مفعول لمحذوف: {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي: الفراش، مستعار من فراش النائم.
{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} وهو ما يغسق من صديد أهل النار؛ أي: يسيل. وجملة: {فَلْيَذُوقُوهُ} معترضة بين المبتدأ وخبره.
{وَآخَرُ} أي: ومذوق، أو عذاب آخر: {مِن شَكْلِهِ} أي: هذا المذوق، أو العذاب في الشدة والهوان: {أَزْوَاجٌ} أي: أجناس وأصناف. ثم بين ما يقال للرؤساء الطاغين، إذا أدخلوا النار.
{هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} أي: هذا جمع من أتباعكم، وأشباهكم، أهل طبائع السوء والرذائل المختلفة، مقتحم معكم في مضايق المذلة، ومداخل الهوان. والاقتحام ركوب الشدة، والدخول فيها. وقوله: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} أي: دعاء من الرؤساء على أتباعهم. أو صفة لفوج. أو حال؛ أي: مقولًا فيهم: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} أي: ما أتوا ربهم رحبًا وسعة، لشدة عذابهم، وكونهم في الضيق والضنك، واستيحاش بعضهم من بعض؛ لقبح المناظر وسوء المخابر: {إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} أي: داخلوها بأعمالهم مثلنا.
{قَالُوا} أي: التباع للرؤساء: {بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} أي: بل أنتم أحق بما قلتم، لتضاعف عذابكم بضلالكم، وإضلالكم: {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} أي: قدمتم العذاب بإضلالنا وإغوائنا.
قال القاشاني: وهذه المقاولات قد تكون بلسان المقال، وقد تكون بلسان الحال، أي: لأن الوضع لا يختص بالحقيقة، إلا أن الأظهر الأول، ويؤيده قوله تعالى بعدُ: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} أي: المستقر جهنم.
{قَالُوا} أي: الأتباع أيضًا: {رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} كقوله تعالى: {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [الأحزاب: 68].
{وَقَالُوا} أي: الطاغون، أو الأتباع: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ} يعنون فقراء المسلمين الذين يسترذلونهم، ويسخرون بهم.
{أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} قرئ بلفظ الإخبار على أنه صفة لرجالًا. وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم، وتأنيب لها في الاستسخار منهم. وقوله تعالى: {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} أي: مالت عنهم كبرًا، وتنحّت عنهم أنفة. والمعنى أي: الفعلين فعلنا بهم، السخرية منهم أم الإزراء بهم، على معنى إنكار الأمرين على أنفسهم، تحسرًا وندامة على ما فعلوا، وعلى ما حاق بهم وحدهم من سوء العذاب، وقيل: أم، بمعنى بل؛ أي: بل زاغت عنهم أبصارنا لخفاء مكانهم علينا في النار؛ كأنهم يسلّون أنفسهم بالمحال، يقولون: أو لعلهم معنا في جهنم، ولكن لم يقع بصرنا عليهم، فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات، وهو قوله عز وجل: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44]، إلى قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [الأعراف: 49]، الآية. وقيل: أم بمعنى بل أيضًا، أي: بل زاغت عنهم أبصارنا لكونها في دار أخرى وهي دار النعيم. وقُرئ {سُخْريًّا} بضم السين، وكسرها.
{إِنَّ ذَلِكَ} أي: الذي حكي عنهم: {لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} أي: لواقع وثابت. و: {تَخَاصُمُ} بدل من حق، أو خبر لمحذوف. وقرئ بالنصب على البدل من: {ذَلِكَ} قال الزمخشري: فإن قلت: لم سمي ذلك تخاصمًا؟ قلت: شبه تقاولهم، وما يجري بينهم من السؤال والجواب، بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك، ولأن قول الرؤساء: {لا مَرْحَبًَا بِهِمْ} وقول أتباعهم: {بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} من باب الخصومة. فسمي التقاول كله تخاصمًا؛ لأجل اشتماله على ذلك. انتهى.
فكتب الناصر عليه: هذا يحقق ما تقدم من أن قوله: {لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} من قول المتكبرين الكفار. وقوله تعالى: {بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} من قول التباع. فالخصومة على هذا التأويل حصلت من الجهتين. فيتحقق التخاصم. خلافًا لمن قال أن الأول من كلام خزنة جهنم، والثاني من كلام الأتباع؛ فأنه على هذا التقدير، إنما تكون الخصومة من أحد الفريقين. فالتفسير الأول أمكن وأثبت. انتهى.
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ} أي: رسول مخوّف: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ} أي: بلا ولد، ولا شريك: {الْقَهَّارُ} أي: الغالب على خلقه.
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي: من الخلق والعجائب: {الْعَزِيزُ} أي: الذي لا يغلب إذا عاقب العصاة: {الْغَفَّارُ} أي: لمن تاب وأناب.
{قُلْ هُوَ} أي: الذي أنذرتكم به من التوحيد، ومن البعثة به: {نَبَأٌ عَظِيمٌ}.
{أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} أي: لتمادي غفلتكم، فإن العاقل لا يعرض عن مثله، كيف، وقد قامت عليه الحجج الواضحة؟ أما على التوحيد، فما مرّ من آثار قدرته وصنعه البديع. أما على بعثته صلى الله عليه وسلم به، به فقوله: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي: فإن إخباره عن محاورة الملائكة، وما جرى بينهم، على ما ورد في الكتب المتقدمة، من غير سماع ومطالعة كتاب، لا يتصور إلا بالوحي.
قال القاشاني: وفرق بين اختصام الملأ الأعلى، واختصام أهل النار بقوله في تخاصم أهل النار: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ} وفي اختصام الملأ الأعلى: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} لأن ذلك حقيقي لا ينتهي إلى الوفاق أبدًا، وهذا عارضيّ نشأ من عدم اطلاعهم على كمال آدم عليه السلام، الذي هو فوق كمالاتهم، وانتهى إلى الوفاق عند قولهم: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]، وقوله تعالى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة 33]، على ما ذكر في البقرة عند تأويل هذه القصة. انتهى.
وبالجملة، فالاختصام المذكور في الآية، هو المشار إليه في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، قال الرازي: وهو أحسن ما قيل فيه.
ثم قال: ولو قيل: كيف جازت مخاصمة الملائكة معه تعالى؟ قلنا: لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب، وذلك يشابه المخاصمة والمناظرة، والمشابهة علة لجواز المجاز، فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه. انتهى.
وملخصه: أن: {يَخْتَصِمُونَ} استعارة تبعية ليتقاولون. وقيل: معنى الآية، نفي علم الغيب عنه صلّى الله عليه وسلم، ورد اقتراحهم عليه أن يخبرهم بما يحدث في الملأ الأعلى من التخاصم، كقوله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام 50]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الملك: 26]، ولذا قال بعد: {إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} وقرئ: {إِنَّما} بالكسر على الحكاية.
تنبيهات:
الأول- قال الرازي: واعلم أن قوله: {أنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} ترغيب في النظر والاستدلال، ومنع من التقليد؛ لأن هذه المطالب مطالب شريفة عالية، فإن بتقدير أن يكون الْإِنْسَاْن فيها على الحق، يفوز بأعظم أبواب السعادة، وبتقدير أن يكون الْإِنْسَاْن فيها على الباطل، وقع في أعظم أبواب الشقاوة. فكانت هذه المباحث أنباء عظيمة ومطالب عالية بهية، وصريح العقل يوجب على الْإِنْسَاْن أن يأتي فيها بالاحتياط التام، وأن لا يكتفي بالمساهلة والمسامحة.
الثاني- قدمنا أن أكثر المفسرين على تأويل الاختصام بالتقاول في شأن آدم عليه السلام مع الملائكة. وقيل: مخاصمتهم مناظرتهم بينهم في استنباط العلم، كما تجري المناظرة بين أهل العلم في الأرض. حكاه الكرماني في عجائبه.
وذهب ابن كثير إلى أنه عنى به ما كان في شأن آدم عليه السلام، وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربه في تفضيله عليه. وإن قوله تعالى بعد: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} [البقرة: 30]، تفسير له. ولم أره مأثورًا عن أحد. بل المأثور عن ابن عباس، وغيره ما تقدم، من أنه في شأن آدم والملائكة، وهذا كله على إثبات علم التخاصم بالوحي، بتقدير: ما كان لي من علم لولا الوحي. ولا تنس القول الآخر، والنظم الكريم يصدق على الكل بلا تناف. والله أعلم.
وقد جاء ذكر تخاصم الملأ الأعلى في حديث الإمام أحمد عن معاذ رضي الله عنه قال: احتبس علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح، حتى كدنا أن نتراءى قرن الشمس. فخرج صلّى الله عليه وسلم سريعًا، فثوب بالصلاة، فصلى، وتجوز في صلاته. فلما سلم قال صلّى الله عليه وسلم: «كما أنتم». ثم أقبل إلينا فقال: «إني قمت من الليل فصليت ما قدّر لي، فنعست في صلاتي حتى استيقظت، فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة. فقال: يا محمد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، يا رب! أعادها ثلاثًا. فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري. فتجلى لي كل شيء وعرفت. فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات. قال: وما الكفارات؟ قلت: نقل الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء عند الكريهات. قال: وما الدرجات؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. قال: سل. قلت: اللهم! إني أسألك فعل الخيرات،وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة بقوم، فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك». وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنها حق فادرسوها وتعلموها».
قال ابن كثير: هذا حديث المنام المشهور. ومن جعله يقظة فقد غلط، وهو في السنن من طرق، وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي من حديث جهضم بن عبد الله اليمامي به، وقال: حسن صحيح.
ثم قال ابن كثير: وليس هذا الاختصام المذكور في القرآن، فإن هذا قد فسر، وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا. انتهى. يعني قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أي: فخروا له ساجدين تعظيمًا وتكريمًا، إذا عدلت خلقته، وأحييته بنفخ الروح فيه. فإذا: بدل من إذا الأولى مفصل لما أجمل قبلها من الاختصام، وهذا ما رآه الزمخشري وتابعه ابن كثير. وقدّر أبو البقاء: اذكر، وهو الأظهر عندي، ويعضده القول الثاني في الآية المتقدمة: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ} أي: تعظم: {وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} أي: باستكباره أمر الله تعالى، واستكباره عن طاعته {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أي: بنفسي من غير توسط، كأب وأم: {أَسْتَكْبَرْتَ} أي: أعرض لك التكبر، والاستنكاف: {أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} أي: عليه زائدًا في المرتبة.
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} يعني أن الروح الحيواني الناري أشرف من المادة الكثيفة البدنية، وعاب عنه ما تضمنته من الحكمة الإلهية، واللطيفة الربانية حتى تمسك بالقياس، وعصى الله تعالى في السجود.
{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا} أي: من الجنة أو السماء: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أي: مطرود من الرحمة، ومحل الكرامة.
{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} قال القاشاني: الرجيم واللعين من بعُد عن الحضرة القدسية، المنزهة عن المواد الرجسية، بالانغماس في الغواشي الطبيعية، والاحتجاب بالكوائن الهيولانية. ولهذا وقت اللعن بيوم الدين، وحدد نهايته به؛ لأن وقت البعث والجزاء هو زمان تجرد الروح عن البدن ومواده، وحينئذ لا يبقى تسلطه على الْإِنْسَاْن. انتهى.
{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} وهو القيامة الكبرى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} وهم الذين أخلصهم الله لنفسه من أهل العناية عن ثوب الكدورات النفسية وحجب الأنانية، وصفى فطرتهم عن خلط ظلمة النشأة البشرية.
{قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} جملة معترضة، للتأكيد؛ أي: ولا أقول إلا الحق.
{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} أي: تبعك في التعزز، والاستكبار، والإباء عن الحق، والمحاجة في الباطل: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي: على القرآن، أو الوحي. قال القاشاني: أي: لا غرض لي في ذلك. فإن أقوال الكامل المحقق بالحق مقصودة بالذات، غير معلومة بالغرض: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} قال الزمخشري: أي: المتصنعين الذين يتحلون بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنعًا، ولا مدعيًا ما ليس عندي، حتى أنتحل النبوة، وأدعي القرآن.
تنبيه:
في الآية ذم التكليف. وقد روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: يا أيها الناس! من علم شيئًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم. فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم. فإن الله عز وجل قال لنبيكم صلّى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}.
{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} أي: عظة وتذكير لهم. وهذا كقوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقوله سبحانه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17]: {ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} أي: عند ظهور الإسلام، وانتشاره، ودخول الناس فيه أفواجًا أفواجًا، من صحة خبره، وإنه الحق والصدق. وهذا من أجلّ معجزات القرآن؛ لأنه من الغيوب التي ظهر مصداقها؛ إذ كان زمن الإخبار به زمن قلة من المؤمنين، وخوف من المشركين، فلم يمض ردح من الزمن حتى أبدل الله قلتهم كثرة، وضعفهم قوة، وخوفهم أمنًا، وكمونهم ظهورًا وانتشارًا. فصدق الله العظيم، وصدق نبيه الكريم، وحقت كلمة الله على الكافرين، والحمد لله رب العالمين. اهـ.

.قال سيد قطب:

{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)} وبعد عرض هذه القصص الثلاثة بشيء من التفصيل؛ ليذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصبر على ما يلاقيه. يجمل السياق الإشارة إلى مجموعة من الرسل. في قصصهم من البلاء والصبر، ومن الإنعام والإفضال، ما في قصص داود وسليمان وأيوب عليهم السلام ومنهم سابقون على هؤلاء معروف زمانهم. ومنهم من لا نعرف زمانه، لأن القرآن والمصادر المؤكدة لدينا لم تحدده: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصةٍ ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار}.
وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وكذلك إسماعيل كانوا قبل داود وسليمان قطعًا. ولكن لا نعرف أين هم من زمان أيوب. وكذلك اليسع وذو الكفل. ولم يرد عنهما في القرآن إلا إشارات سريعة. وهناك نبي من أنبياء بني إسرائيل اسمه بالعبرية: إليشع وهو اليسع بالعربية على وجه الترجيح. فأما ذو الكفل فلا نعرف عنه شيئًا إلا صفته هذه {من الأخيار}.